الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الخامس والعشرين من مدارج السالكين، منزلة اليوم منزلة الثقة.
النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ طويل يقول:
(( عن علي بن أبي طالب سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن سنَّتِه فقال: المعرفةُ رأسُ مالي، والعقلُ أصلُ ديني، والحبُّ أساسي، والشَّوقُ مركبي، وذِكرُ اللهِ أنيسي، والثِّقةُ كَنزي، والحُزنُ رفيقي، والعِلمُ سلاحي، والصَّبرُ ردائي، والرِّضا غنيمتي، والعجزُ فخري، والزُّهدُ حِرفتي، واليقينُ قوَّتي، والصِّدقُ شفيعي، والطَّاعةُ حبِّي، والجهادُ خُلقي، وقُرَّةُ عيني في الصَّلاةِ. ))
[ العراقي: تخريج الإحياء للعراقي: خلاصة حكم المحدث: لم أجد له إسناداً ]
إلى أن يقول والثقة كنزي، الكنزُ الذي لا يُقدّرُ بثمن هوَ ثِقَتُكَ باللهِ عزّ وجل، الكنزُ الذي لا يُقدّرُ بثمن بتقرير النبي عليه الصلاة والسلام أن تكونَ واثقاً بالله، وقد وردَ في بعض الأحاديث أنك إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكّل على الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله، أنا أُتابعُ كلمة الثقة، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((والثِّقةُ كنزي)) أي الثِّقةُ بالله عزّ وجل، وإذا أردتَ أن تكونَ أغنى الناس فكُن بِما في يدي الله أوثقُ منكَ بما في يديك، والحقيقة الثِّقةُ باللهِ عزّ وجل ثمرةٌ من ثِمارِ الإيمان، أو ثمرةٌ من ثِمارِ المعرفة، أي إذا عرفتهُ وثقتَ به، فأُمُّ موسى عليه السلام ماذا قال الله لها؟
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)﴾
كلام غريب!! ﴿فإذا خِفتِ عليه فألقيه في اليمِ﴾ ائتني بامرأة من مليون امرأة، تضعُ ابنها في صندوق، وتُلقيه في النهر، لماذا ألقت أُمُّ موسى وليدها الحبيب في النهر؟ لِثِقتها بأنَّ الله عزّ وجل سيحفظهُ، لذلك: ﴿فإذا خِفتِ عليه فألقيه في اليمِ ولا تخافي ولا تحزني﴾ أي مثلاً وأنا في طريقي إلى المسجد خطرَ على بالي هذا المثل؛ لو أنكَ في طائرة، وهي تُحلِّق على ارتفاع أربعين ألف قدم، وجاء إنسان وفتحَ لكَ بابها، وقالَ لك: انزل، وتأكد أنَ في الأرضِ مُسطّحاً مرناً يمتصُّ هذه الصدمة، وسوفَ تنزِلُ سالِماً، أتُلقي بنفسك؟ هناك حالة واحدة؛ إذا كُنتَ واثِقاً من هذا القول إلى درجة خيالية تُلقي بنفسك، لكن لن تُلقي بنفسِكَ من باب الطائرة إلا إذا كُنتَ واثقاَ من النجاة، هؤلاء المظليون كيف يُفتحُ لهم باب الطائرة ويُلقونَ بأنفسهم؟ لابدَّ من أنَ هذه المِظلّة مدروسة دراسة علمية؛ مساحتها، وطريقة فتحها، ومقاومة الهواء، ووزنُ المظلي، هذا كلهُ مدروس بدقة، فلذلك بِلا وجل ولا خوف يُفتحُ بابُ الطائرة، ويُلقي هذا المظلي بنفسهِ في الهواء، تُفتحُ المِظلة، وينزل رويداً رويداً، موضوع الثِّقة، أي أنت مثلاً متى ترفض دخلاً كبيراً فيهِ شُبُهة؟ لِثِقَتِكَ بأنكَ إذا تركتهُ لله عوّضكَ الله خيراً منه، متى ترفضُ عملاً لا يُرضي الله؟ لِثِقَتِكَ أنكَ إذا فعلتَ ذلكَ غَضِب الله عليك، وإذا غَضِب الله عليك خَسِرتَ كُلَّ شيء، متى ترفضُ أن تُعينَ ظالماً؟ لِثِقَتِكَ أنكَ إذا أعنتهُ كُنتَ أولَّ ضحاياه، من أعان ظالماً سلّطه الله عليه، هذا القرآن الكريم حينما تقرؤه، والسُّنّةُ المطهّرةُ حينما تقرؤها، إذا كُنتَ واثِقاً أنَّ هذا كلام خالِقُ الكون، وأنَّ زوالَ الكون أهونُ من ألا يتحققَ وعدهُ أو وعيدهُ، وأنَّ زوالَ الكون أهونُ من ألا يتحقق وعد النبي ووعيدهُ، عندئذٍ تَثِقُ بأنَّ هذا القرآن كلامهُ، وأنهُ واقعٌ لا محالة، لذلك تخشاهُ.
أي لا أُبالغ يُمكن أن يُجمعَ الإيمانُ كُلّهُ في كلمة واحدة، أنكَ واثقٌ مما جاء في القرآن الكريم، تضعُ الدنيا تحتَ قدميك، تضعُ كّلَّ مباهج الدنيا تحتَ قدميك، إذا حَمَلتكَ على معصية الله أو إذا حَجَبتكَ عن الله، ولو سألتَ مؤمناً: لماذا أنتَ تُطيع الله عزّ وجل؟ لو سألت مؤمناً صادقاً ما الذي يحمِلكَ على طاعتهِ؟ يقول لكَ: لأنني مُتصلٌ بهِ، وأخشى على هذه الصِّلة أن تنقطع، وهذا أقوى جواب، لماذا تغضُّ بصركَ عن محارم الله؟ لأنكَ موصول بالله بهذه الطاعة، فإذا أطلقتَ بصركَ في محارم الله حُجِبتَ عن الله، وما دام الله أغلى ما تملك، أغلى شيء في حياتك، لذلك حريصٌ أنتَ على أن تكونَ متصلاً بهِ، هذا سِرُّ الطاعة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ما كانَ مُبالِغاً حينما قال: ((والثِّقةُ كنزي)) وما كان مُبالِغاً حينما قال: إذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، فلذلك يمكنُ أن يُضغطَ الإيمانُ كلهُ، والمعرفةُ كُلها، واليقينُ كُلهُ في كلمةٍ واحدة، هو أنكَ واثِقٌ بالله، واثِقٌ من أنَّ اللهَ لا يُضيّعُ عبدهُ المؤمن، زوال الكون أهون على اللهِ من أن يُضيّعَ مؤمناً أطاعه، سبحانكَ إنهُ لا يَذِلُّ من واليت ولا يَعُزُّ من عاديت.
سيدنا رسول الله كانَ مع أصحابهِ، وكانوا فقراء، ضعفاء، مقهورين، محتاجين، لمّا التقى بهِ عديِ بن حاتم، قالَ له: لعلكَ يا عديُ بن حاتم، إنما يمنعكَ من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجتهم؟ وايمُ الله! ليوشِكنَّ المالُ أن يفيضَ فيهم حتى لا يوجد من يأخذهُ، واثق، أنا والله الذي لا إله إلا هو إن رأيتُ شاباً مستقيماً، ضابطاً لجوارحه، ضابطاً لمشاعره، يصلي آناء الليل وأطرافَ النهار، يغضُّ بصرهُ عن محارم الله، يتحرّى الحلال، مستعدٌ أن يُضحي بكلِّ شيء من أجلِ مرضاة الله عزّ وجل، والله الذي لا إله إلا هو أقول لهُ وأنا واثِقٌ مما أقول لهُ كثقتي بأنَّ هذه شمسٌ في رابعةِ النهار: الله سبحانهُ وتعالى سيوفِقُك، وسيرفعُك، وسيُعِزُّك، وسيُعطيك، وسيُقرُّ عينَك، أبداً، الإيمان كلهُ أن تكونَ واثقاً بالله.
المعاصي التي يقترفُها الناس لِضعفِ ثِقتهم بالله:
هناك أسئلة تَرِدُ كثيراً، يا أخي إذا ما فعلت هكذا أُسرق؟ إن لم أضع المال في المكان الفلاني، مكان الشُّبُهة والحرمة وكذا يُسرق المال؟ هذه ثِقَتُكَ بالله؟ لأنكَ أطعتهُ ضيّعَ اللهُ مالك، إن لم أُعلّم ابنتي في الجامعة وفي المراحل العُليا تُطلّق، فإذا طُلِّقت لابُدَّ لها من عمل، فكرَ بطلاقِها قبلَ أن يُزوِجُها، تفكيرهُ في الطلاق قبلَ الزواج، هذه ثِقَتُكَ بالله؟ إذا ربيّتَ ابنتكَ تربيةً صالحةً طيبةً على طاعة الله، ظَنُكَ أنَّ الله سيأتيها بزوج، أولُّ ما يفعلهُ معها أنهُ يُطلقُها هكذا؟ هذه ثِقَتُكَ بالله عزّ وجل؟
أي الموضوع واسع جداً، كُلُّ المعاصي التي يقترفُها الناس لِضعفِ ثِقتهم بالله، كُلُ اليأسِ الذي يُصابُ بهِ الناس لِضعفِ ثِقتهم بالله، كُلُّ القنوط حينما يطيعُ مخلوقاً ويعصي خالِقاً ضعيفُ الثِّقةِ بوعدِ الله، رأى أنَّ إرضاء هذا المخلوق أثمنُ من رِضاءِ الله عزّ وجل، وأنَّ سخطَ هذا المخلوق أعظمُ عِندهُ من سخطِ الله، ليسَ واثِقاً بكلام الله، ولا واثِقاً بِما عِندَ الله من نعيمٍ مُقيم، ولا ما عِندَ الله من عذابٍ أليم، فلذلك إذا ضغطنا الإيمانَ كُلَّهُ، والمعرفةَ كُلَّها، واليقينَ كُلَّهُ بكلمة واحدة إنها الثِّقة، ولم يُبالغ النبي الكريم حينما قال: ((والثِّقةُ كنزي)) .
لذلك العلماء قالوا: التفويضُ لله، والتسليمُ لقضاء الله، مرتبة التفويض ومرتبة التسليم ومرتبة التوكل أساسُ هذه المراتِبِ كُلِّها الثِّقة.
أنتَ لا تُفوِض إلا من تَثِقُ بهِ، واحد مِنّا من يعمل، من يُسطّر لآخر وكالة عامّة؟ عامة، أي بإمكانِ هذا الوكيل أن يبيعَ أملاكِكَ كُلّها، بإمكانهِ أن يُطلِّقَ مِنكَ امرأتك، أنتَ لمن تُعطي وكالة عامة؟ لمن تَثِقُ بهِ، أبداً، أي أساس التعامُل هو الثِّقة، فهل في الكونِ كُلِّهِ جِهةٌ أجدرُ بثِقَتِكَ من اللهِ عزّ وجل؟
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
حتى إنَّ بعضَ العلماء حينما قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾
والله أنا ما رأيت، أحضر لي واحداً رأى هذا الحادث؟ لِمَ لم يقل الرب: ألم تسمع؟ معقولة، سمعنا فيها، قرأناها في التاريخ، أبرهة، أما
﴿ألم ترَ﴾ ؟ من رأى مِنّا ما فعلهُ أبرهةُ بالكعبة؟ العلماء قالوا: لأنَ إخبارَ اللهِ يقينٌ كيقين المُشاهدة، إخبار الله عزّ وجل يقينٌ كيقين المُشاهدة، لذلك وردَ قولهُ تعالى:
﴿ألم تر كيفَ فعلَ ربُكَ بأصحاب الفيل﴾ ثِقة، مثلاً:
(( عن سالم عن أبيه مرفوعاً ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه. ))
[ رواه أبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا وقال غريب، لكن له شواهد منها ما رواه التيمي في ترغيبه ]
إذا كُنتَ واثِقاً من قول النبي تُضحي بِكُلِّ شيء، ولا تُضحي بطاعة الله عز وجل، وعِندَئذٍ يأتيكَ كُلّ شيء، ضحِّ بِكُلِّ شيء إرضاءً للهِ عزّ وجل يأتيكَ كُلُّ شيء، أي هل في الأرضِ كُلِّها إنسان يرى في المنام أنهُ يذبحُ ابنهُ، يقول له في اليوم التالي:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)﴾
إذا كان هناك بالأرض كُلها إنسان واحد عِندهُ استعداد لِمنامٍ رآهُ في الليل أن يذبحَ ابنهُ حبيب قلبِهِ، مُهجة فؤادِهِ، أن يضعَ السكينَ على رقبتهِ، شيء مستحيل، لكن لماذا فعلَ هذا النبي العظيم؟ لأنهُ واثقٌ من رحمة الله، واثِقٌ من أنَّ أمرَ اللهِ فيه حِكمةٌ بالِغة، وأنَ أمرَ الله لابدَّ من أن يُنفّذ، لكن لمّا انطلقَ لتنفيذهِ كانَ الفِداءُ الذي تعرفونهُ جميعاً.
فلذلك موضوع الثِّقة ممكن وأنت راكب مركبة تطّلع على ساعة السُّرعة، على مؤشر السُرعة، فهذا المؤشر حركتهُ تتناسب مع السُّرعة تماماً، أي إذا كان عشرين عشرين، أربعين أربعين، مئة مئة، ويجب أن أقول لكَ مرةً ثانية: إنَّ مؤشِرَ الثِّقة يتناسب مع إيمانك، إيمانك خمسة بالمئة، الثقة خمسة بالمئة، إيمان خمسون، الثقة خمسون، الإيمان ثمانون، ثمانون، كُلما ارتفعَ مستوى الإيمان ارتفعَ معهُ مؤشر الثِّقة، إلى أن تؤمر بشيء غير معقول، لكنكَ واثِقٌ من أنَّ الله عزّ وجل لن يُضيعك.
أكثر التُجار هناك أعراف، هناك أساليب، يأتي تاجر مؤمن يُخالف هذه الأعراف، هذه شُبُهة لا أفعلُها، يُقال له: أنتَ مجنون، ضيّعتَ عليكَ رِبحاً وفيراً، جمّدتَ هذا المال سنوات طويلة من دون أن تأخذ رِبحاً أو فائدةً، هكذا العاقل؟ هو واثِقٌ أنهُ إذا أطاع الله عزّ وجل لن يُضيعهُ الله أبداً، لن يُضيعهُ أبداً، لذلك أحياناً تتعارض القوانين الأرضية التي تعارفَ الناسُ عليها مع الأوامر الإلهية، هُنا يظهر المؤمن، أي الناس جميعاً يدعونكَ إلى أن تفعلَ كذا وكذا، هكذا التِّجارة، هكذا البيع والشراء، هكذا إخفاء العيب، هكذا ينبغي أن تفعل، والنبي عليه الصلاة والسلام يُعطيكَ أمراً آخر، فإذا كُنتَ واثِقاً من أنَّ هذا النبي العظيم لا ينطق عن الهوى، وكلامهُ وحيٌ يوحى، وأنَّ هذا الوحي من عِندِ الله، وأنَّ الله هو الصانع، وهذه تعليمات الصانع، أنت مثلاً إذا عندك آلة معقّدة وغالية، بِربك تُلقيها أمام أي إنسان ليُصلحها لكَ؟ والله قبلَ أن تُعطيها إياه تسألُ عنهُ، وعن خِبرتهِ، وعن أعمالهِ السابقة، وعن صِدقهِ، وعن أمانتهِ، وعن ذكائه، وعن، وعن، قبلَ أن تُعطيهُ ساعة، قبل أن تعطيه جهازاً، أخي يعطبه، يسرق منهُ، لا تقدر، لن تُعطيهُ هذه الساعة إلا إذا وثقتَ من عِلمهِ وأمانتهِ، لن تُعطيهُ مبلغاً من المال ليستثمرهُ لك إلا إذا كُنتَ واثِقاً من أمانتهِ ومن خِبرتهِ في وقتٍ واحد، فالثِّقةُ أساس، فلذلك أنتَ لن تُفَوِضَ للهِ عزّ وجل إلا إذا وثقتَ من حِكمته ورحمته.
كُلما زادَ الإيمان زادت الثِّقة:
اللهم خِر لي واختر لي، هذا تفويض، اللهم اجعل محبتكَ أحبَّ الأشياء إلي، ورضّني بقضائِك، حتى لا أُحِبَّ تعجيلَ ما أخّرت ولا تأخير ما عجّلت، واثق أنت لكلِّ شيء أوان، فإذا تعجلّتَ الشيء قبلَ أوانهِ عوقِبتَ بحرمانهِ، فثِقتُكَ بالله عزّ وجل هي إيمانُك، مؤشر الثِّقة يتناسب طرداً مع مؤشر الإيمان، كُلما زادَ الإيمان زادت الثِّقة، فأنتَ إذا واجهتَ مُشكِلةً تُفوّض، يا ربي أنا راضٍ، أنا فوضتُكَ فيما تُريد، افعل بي ما تُريد، أنا واثِقٌ من رحمتك يا رب، واثِقٌ من حِكمتك، واثِقٌ من تدبيرك، من عدالتك، من عِلمِك، بما ينطوي عليه قلبي من نوايا، هذا التفويض، قدمت امتحاناً لم تنجح، بعدما فوضت لم تنجح، أنتَ الآن أمام حالة أُخرى ما هي؟ التسليم، التفويض قبلَ النتائج، والتسليم بعدَ النتائج، فلابُدَّ من أن تفوض، ولا بُدَّ من أن تُسلّم، لابُدَّ من أن تُفوّض قبلَ النتائج، ولابُدَّ من أن تُسلّم بعد النتائج، والتفويض والتسليم أساسهُ الثِّقة، والتفويضُ والتسليمُ مع الثِّقةِ هذه كُلُّها هيَ التوكل، والتوكل:
﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)﴾
يكفي، لذلك يا ربي إذا كُنتَ معي فمن عليّ؟ وإذا كُنتَ عليَّ فمن معي؟ يا أبا بكر! ما ظُنُّكَ باثنين الله ثالِثُهما؟:
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)﴾
ارتباط الروح والفرح باليقين والرضا:
قيل: إن الله بعدله وقِسطه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط، أي كل الأحزان إذا شككتَ برحمة الله، بعدالتهِ، بحِكمتهِ، برحمتهِ، بعطائهِ، بقدرتهِ، بعلمهِ، مادام هُناك شك هناك أحزان لا تنتهي، ويوجد سُخط، دائماً ساخط، من صفات الكافر أنهُ يتسخّط كُلَّ شيء، دائماً ساخط، كل شيء لا يُعجِبهُ، كُل شيء ينتقدهُ، لا يرى يدَ الله عزّ وجل تفعلُ ما تُريد، لا يرى حِكمة الله عزّ وجل، لكن الرِّضا حال قلبي ليسَ عملاً إرادياً، فالعلماء قالوا: من لم يقدر على الرِّضا ظَفِرَ باليقين، لم يرض لكنه موقن أنَّ هذا العمل نتائجهُ لصالِحه، وإن لم يظفر باليقين فعليه بالصبر، إمّا أن ترضى، وإما أن توقن، وإما أن تصبر، إن ظَفِرتَ بالرِّضا فهذه مرتبةٌ جيدة، وإن لم تظفر بها فعليكَ باليقين بأنَّ النتائج لِصالِحك لقول الله عزّ وجل:
﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾
وإن لم تظفر باليقين فعليكَ بالصبر:
﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)﴾
التسليم تسليمان؛ تسليمٌ لأمرِهِ التكليفي وتسليمٌ لأمرهِ التكويني:
الآن التسليم لله عزّ وجل، قال: هُناكَ تسليمان، تسليمٌ لأمرِهِ التكليفي، وتسليمٌ لأمرهِ التكويني.
أي طلّقتها المرة الأولى والثانية والثالثة، انتهى، بانت مِنكَ بينونةً كُبرى، فلا تَحِلُّ لكَ حتى تَنكِحَ زوجاً غيرك، يا أخي ما هذا؟ لا يصير، أريد أن أُعيدها، معناها أنت لم تُسلّم أنَّ هذا التشريع من عِندِ خالِق الكون، أول مرة مُمكن لكَ أن تُعيدها، المرة الثانية مُمكن، أما الثالثة غير معقول، معناها أنتَ لا تُريدُها، فلابُدَّ من أن تُجرّب غيرك، فإذا أزعجت غيركَ فالعِلةُ مِنها، عندئذٍ تُطلق، فإذا انزعجت من غيركَ فالعلة منها وإن رضيت بهِ فالعِلةُ مِنك، هكذا التشريع.
فكل إنسان لا يرضى بهذا التشريع، يا أخي الصيام ثلاثون يوماً بالصيف، هذه الطاقة العاملة تضعف، الإنسان يهبط مستوى نشاطهُ بالعمل، لماذا الصيام؟ أنتَ لا تعرفُ الله أبداً، ما دام هُناك اعتراض على أمره التشريعي.
الحج، لماذا الطواف؟ لماذا السعي؟ لماذا الوقوف بعرفة؟ لماذا البلاد حارة لهذه الدرجة يا أخي؟ يجعلها كالبلاد المعتدلة؟ ما عرفتَ حِكمة الله عزّ وجل، كُلما اعترضتَ على أمرٍ تكليفي من عِبادةٍ أو معاملة أو خُلُقٍ فأنتَ لا تعرِفُ الله عزّ وجل، فعلامة المؤمن أن يُسلّم لأمر الله التكليفي، لذلك ربنا عزّ وجل قال:
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾
تحكيمُ النبي عليه الصلاة والسلام هو تحكيمُ الشرع، وبعدَ موت النبي عليه الصلاة والسلام كيفَ تحكيمهُ؟ أن تعودَ إلى سُنّتهِ، إذا عُدتَ إلى رأيهِ في حياتهِ فرأيُهُ سُنّة، وإذا عُدتَ إلى سُنته بعدَ مماتهِ فقد حكّمتهُ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ الإنسان حينما يرضى بالتحكيم فقد وثقَ بالمُحكَّم، إذا قالَ لكَ: فلان لا، أنا لا أقبله، إن لم يكن واثِقاً بالمُحكَّم لا يقبل، فلمجرد أن تقبلَ بالتحكيم، أن يُحكّمَ النبي عليه الصلاة والسلام، هذه مرتبة، المرتبة الثانية: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ﴾ أي معقول أنهُ لا يحكم لي؟ غير معقول، لا أرضى إذا لم يحكم لي مثلاً، أنتَ قَبِلت لكن مع القبول قلق، كيفما حكم فأنتَ راضٍ: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ﴾ وبعدَ أن يحكُم ﴿ويُسلّموا تسليماً﴾ يوجد صحابي جليل احترق، لأنهُ لمّا النبي الكريم نهى عن قتل عمهُ العباس، قالَ في نفسهِ: يأمُرنا ألا نقتلَ عمهُ ونحنُ نقتلُ آباءنا وإخواننا، فسّرَ التوجيه تفسيراً آخر، تفسيراً عصبياً، أن عمهُ لا نقتله، أمّا نحن نقتل آباءنا لا بأس، هوَ عمهُ كان قد أسلمَ من قبل غزوة بدر، والنبي الكريم إذا قال: إن عمي قد أسلم، فَقَدَ مهمتهُ الخطيرة في مكة، كان يُقدّمُ للنبي أخباراً دقيقةً عما تُزمِعُ عليه قريش، فلو أعلنَ أنَّ عمهُ قد أسلم انتهى دورهُ، ولو لم يأمر أصحابهُ ألا يقتلوه يقتلونه في الحرب، ولو لم يشترك عمهُ في الحرب لَشُكَّ في ولائهِ لقُريش، إذا لم يشترك بالحرب عمه مُشكلة، وإذا قال النبي: إنَّ عمي أسلم مُشكلة، وإذا قال اقتلوه مشكلة، أليسَ لكَ ثِقة بالنبي أنهُ حكيم وليسَ مُتعصبّاً لأهلِهِ ولا لأعمامهِ؟ فهذا الصحابي قال: أيأمُرنا ألا نقتلَ عمهُ ونحنُ نقتلُ آباءنا وإخواننا، فسّرها تفسيراً آخر قال: بقيت عشر سنوات وأنا أتصدق وأُصلي لعلَ اللهَ يغفِرُ لي هذا الظن السيئ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ إذاً يجب أن تستسلم لأمر الله التشريعي، أمركَ بكذا، أمرك بكذا، نحن نقرأ القرآن قُم واسجد، لم يعجبهُ، نحنُ نقرأ الآن نحن جالسون، هكذا النبي فعل، كُلما مرّت آية فيها سجدة سجدَ للهِ عزّ وجل، ما دام هناك اعتراض، هناك عدم قبول لأمر الله عزّ وجل التكليفي التشريعي فهُناك خلل في الإيمان.
قال: النوع الثاني التسليمُ لأمر الله التكويني، أي هذا الإنسان لم يأته أولاد، جاءتهُ زوجة سيئة جداً، هكذا شاء القدر، دخلهُ قليلٌ جداً، لهُ ابن فيهِ عاهةٌ منذُ الولادة، هكذا الله يُريد، ألستَ واثِقاً من حِكمته؟ من رحمته؟ من عِلمه؟ من عدالته؟ قال: هذا هو الرِّضاءِ بالقضاءِ والقدر.
لكن الآن هناك نقطة مهمة جداً، يوجد عندنا قضاء وقدر، ويوجد عندنا قضاء ليسَ لكَ أن ترفضهُ، وهناك قضاء يجبُ أن ترفضهُ، كيف؟ لو شعرت أن في البيت لصاً، كيف دخل اللص؟ أليس كذلك؟ ما كُلُّ قضاءٍ وقدر يُستسلمُ لهُ، الابن ساخن، حرارته أربعون، قضاء وقدر، ألا تُعالجهُ؟ هناك قضاء يجبُ أن تستسلمَ لهُ، وهناك قضاء ثانٍ يجبُ ألا تستسلمَ لهُ، يجبُ أن تبذِلَ وسعك في معالجته، معالجة مريض، ابنك ضعيف في الدراسة، لا يوجد منه خواص، لماذا ليس منه خواص، اعتن بهِ، درّسهُ، اجعل لهُ برنامجاً مُكثّفاً.
والله أعرف أنا لي أقرباء عندهم ابن، أربع سنوات أعاد الثانوية العامة، والدتهُ مصممة أن يكونَ طبيباً، أربع سنوات شهادة ثانوية، وسبع سنوات بالجامعة، وصار طبيباً، والآن هو طبيب، هناك تصميم، هكذا تستسلم مباشرةً؟! ابني لا يوجد منه خواص، لا يصلح للدراسة مثلاً، أطل بالك، هناك قضاء يجب أن تستسلم لهُ، وهناك قضاء يجب أن تُعالِجهُ.
لذلك قالوا: هناك قضاء وهناك مقضيّ، القضاء من الله مباشرةً، أمّا المقضي عن طريق إنسان، أحياناً شخص يتجاوز حدوده، أتستسلم لهُ؟ تُطمِّعهُ، لكن إذا وقفت في وجهه، ونيتُكَ أن توقِفهُ عِندَ حدهِ، وأن تردعهُ عن مثلِ هذا العمل، هذا عمل طيب، فما كُل قضاء يُستسلمُ لهُ، بل إنَّ علماء العقيدة فرقّوا بينَ القضاء والمقضيّ، إذا إنسان تجاوز الحد، هو حينما فعلَ هذا بأمر الله، لكن أنتَ عليكَ أن ترفضَ هذا العمل، أن تؤدبهُ، أن توقِفهُ عِندَ حدهِ، هُنا الفرق بين الفقيه وعدم الفقيه، غير الفقيه اتركهُ، هكذا يُريد، هكذا الله يُريد، لا، هذا موقف ضعيف، إنسان مثلاً تجاوز حدهُ بالسرعة، دهسَ طفلاً، أخي هكذا الله يُريد، لا، هذا يُعاقب الإنسان، يُعاقب ويدفع الدية جزاء تقصيره وجزاء تهوره وطيشه، حتى نربيه، أخي هذا قضاء وقدر، ليسَ لهُ علاقة، هو حينما فعلَ هذا بقضاء الله وقدرهِ، لكن هذا لا يعني أن يُعفى من المسؤولية، وإلا أصبحنا في فوضى.
فلذلك هُناكَ أحكامٌ يؤمرُ الإنسانُ أن يستسلمَ لها، وأحكام لابدَّ من أن تُعالِجها كما أنَّ الله عزّ وجل أمرَ بذلك.
الله عزّ وجل وجودهُ بيّن ظاهر لا يحتاج إلى دليل:
عندنا نقطة مهمة جداً، أن الله عزّ وجل وجودهُ بيّن ظاهر، لا يحتاج إلى دليل، بالفِطرة تؤمن بوجودهُ، وكُلُّ الكون يدلُّ عليه، أنتَ محتاجٌ لا إلى دليلٍ على وجود الله، ولكنكَ محتاجٌ إلى دليلٍ يوصِلُكَ إلى الله، أي الله موجود، وأنت آمنت بوجودهُ، أمّا الدليل، كيفَ تَصِلُ إليه؟ كيفَ تبتغي مرضاتهِ؟ كيفَ تتصلُ بهِ؟ كيفَ تنعمُ بقُربِهِ؟ أنتَ بحاجة إلى دليل موصِل إلى الله لا إلى دليل يُثبت لكَ وجودهُ، إبليس قالَ له:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
الشيطان الرجيم مؤمن بوجود الله، ومؤمن بعِزتِهِ، فكل إنسان ظنّ نفسهُ أنهُ مؤمن بالله عزّ وجل، أي مؤمن بوجودهُ، أي أنا مؤمن، لا، ليسَ هذا هو القصد، القصدُ لا أن تؤمنَ بوجودهِ فحسب، بل أن تتجهَ إليه، بل أن تتصلَ بهِ، بل أن تَصلَ إليه، كلمة فُلان وصلَ إلى الله، واللهِ لا أستطيع أن أُعبّرَ عنها، أي إذا وصلَ إلى الله رآهُ في كُلِّ شيء، رآهُ فوقَ كُلِّ شيء، رآهُ معَ كُلِّ شيء، ما رأى في الأرض جهةً متصرفة إلا الله عزّ وجل، هذه الرؤية، وإذا رأيتَ هذه الرؤية استقمتَ على أمرهِ، وعكفتَ على مرضاتهِ، وأقبلتَ عليه، وسَعِدتَ بِقُربهِ، فرقٌ كبير بينَ أن تؤمن بوجودهُ وبينَ أن تسعى إليه.
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾
المشكلة ليست أن تؤمن أو ألا تؤمن بوجوده، هذه قضية مفروغ منها، لأنَّ ربنا ماذا قال؟ قال تعالى:
﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)﴾
هناك شك؟ دعاكَ إلى عبادته، دعاكَ إلى طاعته، دعاكَ إلى شُكره، أمّا أنه دعاكَ إلى أن تؤمن بوجودهُ فهذه قضية مفروغ منها، خطر ببالي مثل، شخص أمامك، وزنهُ مئة وعشرون كيلوغرام، طويل، ويلبس بذلة جميلة، ومتعطّر، أخي أنتَ موجود، وقّع لي هُنا، هوَ أكبر من توقيعهُ، أي وجودهُ أهم من توقيعهُ، توقيعهُ إذا غاب عنكَ، يوقّع لك هذه، طالب بالتوقيع إذا غاب عنك، قالَ: يا إمام متى كانَ الله؟ فقالَ لهُ: ومتى لم يكن؟ كلما ارتقى إيمانك المشكلة ليست أن تؤمن بوجودهُ، المشكلة كيفَ تصل إليه؟ كيفَ تأنسُ بهِ؟ كيفَ تُقبِلُ عليه؟ كيفَ تتصلُ بهِ؟ كيفَ تسعدُ بِقُربِهِ؟ هُنا المشكلة: ﴿قل إنما أنا بشرٌ مثلُكم يوحى إليّ أنما إلهكم إلهٌ واحد فمن كانَ يرجو لقاءَ ربهِ فليعمل عملاً صالحاً﴾ .
نحن الحقيقة كُل جهدنا، وكُل عملنا، وكُل مسعانا، وكل التدريس، والتوجيه، والبيان، والتحليل، والأدلة، كيفَ نَصِلُ إليه؟ ليسَ كيفَ نوقن بوجودهُ؟ هذه قضية مفروغ منها، الطالب مثلاً يقينهُ بالفحص ثابت، أمّا المُشكلة كيفَ ينجح في هذا الفحص؟ أخي هناك فحص؟ لا، لا يوجد، والله محتار يا أخي، ليست واردة هذه، الفحص لابد منه، فحص الشهادة الثانوية لابدَّ منهُ، لا أعتقد في المئة ألف طالب يُقدمون شهادة ثانوية كُل سنة هناك طالب واحد يشُك بوقوع الامتحان، ليس معقول أن يكون هناك امتحان، الشك في نجاحهُ أو عدم نجاحهُ، أمّا الامتحان قائم، فهذه نقطة مهمة جداً.
أهلُ الكلام المتشدقون يأتونَ بِكُلِّ شيء على وجود الله، أمّا أهلُ القُرب يبحثونَ عن دليل يُوصِلُ إلى الله، فرقٌ بينَ من يُقيم لكَ الدليل على وجودهُ، ومن يُقيم لكَ الدليل على الوصول إليه، فنحن الآن الحقيقة هذا الدرس من مستوى غير دروس ترسيخ الإيمان، هذه الدروس أساسُها كيفَ نصل؟ كيفَ يكون القلب سليماً؟ كيفَ نُقبل؟ كيفَ نستسلم؟ كيفَ نفوّض؟ كيفَ نتوكل؟ كيفَ نثق؟ فنحنُ لا في مقولة نؤمن أو لا نؤمن، نحنُ في مقولةِ نصل، وكيفَ نصل؟ ومتى نصل؟ وإذا وصلنا ماذا نفعل بعدَ الوصول؟ هنا جاؤوا بمثل لا بأس به، أن رجلاً دعاكَ إلى دارهِ، قُلتَ للرسول: لا آتي معكَ إلا إذا جئتَ بدليل على وجود من أرسلكَ، ودليل على أنهُ مُطاعٌ في أهلهِ، ودليل على أنهُ أهل لاستقبال الضيوف، يقول لكَ: لا تأت، هناك شخص وجودهُ فوق الشُّبُهات، وكرمهُ فوق الشُّبُهات، ودعاك، فما عليكَ إلا أن تُلبّي الدعوة.
العُلماء عالِم بالشريعة وعالِم بالحقيقة وعالم بالطريقة:
قال: المُتكلّم أي المُتفلسف، يبحثُ في المكانِ والزمانِ، والجواهر والأعراض والأكوان، مهمتهُ مقصورةٌ عليها، لا يعدوها ليصلَ منها إلى المُكوّن وعبوديتهِ، أمّا السالِكُ إلى الله، هناك شخص آمن بوجود الله، هناك شخص سالك إلى الله، لذلك العُلماء ثلاثة كما قال بعضُ العارفين: عالِم بالشريعة، أخي هذه حُكمها كذا، هذه حُكمها كذا، هذه مُباح، هذه واجب، هذه فرض، هذه سُنّة، إلى آخرهِ، هذا عالِم بالشريعة، وهناك عالِم أرقى؛ عالِم بالطريقة، عالِم الشريعة إذا دخلَ الوقت توضأ، والوضوء لهُ فرائض، ولهُ سُنن، ولهُ مستحبات، ولهُ آداب، دخل الوقت، استقبل القبلة، طهّر بدنك، طهّر ثوبك، طهّر المكان، كبّر تكبيرة الإحرام، اقرأ دعاء الثناء، الفاتحة، هذا عالِم الشريعة، عالِم الطريقة أرقى، يُعطيكَ أحكام الصلاة، ويقول لكَ: غُضَّ بصركَ عن محارم الله، تقصّى أن يكونَ دخلُكَ حلالاً، لا تنقطع عن اللهِ بينَ الصلاتين، امضِ الوقتَ بالدعاء، فإذا أذّنَ الظُّهر، رأيتَ نفسكَ أهلاً للصلاة، إذا كبّرتَ للإحرام شعرتَ أن نفسكَ قد سرت إلى الله عزّ وجل، هذا عالِم الطريقة، أي يُبيّن لكَ الطريقة التي تقعُ فيها العِبادةُ على نحوٍ يُرضي الله، عالِم الشريعة يقول لكَ: الصيام تركُ الطعام والشراب وسائر المُفطرات، من طلوع الفجر الصادق إلى غياب الشمس بنيّة، هذا تعريف الصيام، لكن عالِم الطريقة يقول لكَ: لابدَّ من قيام الليل، لابدَّ من الأذكار، لابدَّ من تلاوة القرآن، لابدَّ من الصدقات في رمضان، لابدَّ من الاعتكاف حتى يؤتي الصيام ثِمارهُ.
أما عالم الحقيقة فوقَ عالِم الطريقة، يوجد عندنا عالم شريعة، وعالم طريقة، وعالم حقيقة، عالِم الحقيقة هو الذي يُسلِكُكَ إلى الله، وجودهُ مفروغ منهُ، وطاعتهُ بديهية، آمنتَ بوجودهِ، وبأسمائهِ، وبوحدانيتهِ، وبكمالهِ، وعرفتَ منهجهُ، وطبقتَ منهجهُ، بقي عليك أن تسلُكَ إليه، مثلاً أنتَ شاهدت طبيباً، قال لكَ: هذا أستاذ في الجامعة، صباح الخير دكتور، لو سلّمتَ عليه مليون مرة لا تعرف عنه سِوى أنهُ طبيب في الجامعة، أستاذ، أمّا لو جلستَ في إحدى محاضراتهِ، أول محاضرة، ثاني محاضرة، فرق كبير بينَ من يُسلّمُ عليه من موظفين إداريين في الكليّة، وبينَ من يحضُر محاضراتهِ اليومية، هذا يُسلّمُ عليه ومعرفتهُ بهِ ثابتة لا تزيد، أمّا هذا الذي يحضر محاضراتهُ كُلما ألقى محاضرةً جديدة كَبُرَ في نظرهِ، يا أخي هذا من فلتات الزمان، هذا عالِم كبير، هذا حُجّة، هذا لهُ سُمعة على مستوى العالم، هذا أحد ثلاثة بالعالم، أمّا إذا لم تحضر ولا مُحاضرة لهُ، كُلما شاهدتهُ سلّمتَ عليه بلفظ دكتور وأستاذ وصباح الخير وكيف حالك، لكن معرفتك بهِ ثابتة.
فالقضية لا أن تؤمن بوجود الله فقط، أن تَصِلَ إليه، أن تُنمّي معرِفتكَ بهِ، أن تزدادَ قُرباً منهُ، أن تذوقَ حلاوة قُربهِ، أن تسعى إلى بلوغِ مرضاتهِ، فالعالِمُ الذي يُسلِّكُكَ إلى الله عزّ وجل هو عالِمُ الحقيقة، والذي يُعطيكَ القواعد كي تؤدي العبادات كما أراد الله هو عالِمُ الطريقة، والذي يعرِفُ أحكامَ الشريعة بدِقةٍ بالغة هو عالِمُ الشريعة، ولا يكونُ عالِم الطريقةِ عالِماً بالطريقةِ إلا إذا كانَ عالِماً بالشريعة، ولا يكونُ عالِم الحقيقةِ عالِماً بالحقيقةِ إلا إذا كانَ عالِماً بالطريقةِ وعالِماً بالشريعة، الشريعة الهيكل الإسمنتي للدين، الطريقة الكسوة، الحقيقة الأساس، فأنتَ لو فرضنا إنساناً أطلعكَ على خرائط لبناء بناء، يقول لكَ: انظر حساب الإسمنت، تكعيب الإسمنت، انظر حساب الحديد، انظر إلى الطابق الأرضي، ما هذه الخرائط شيء يأخذ العقل؟ وأنتَ لا تملكُ بيتاً، يا ترى أيُهما أرقى؛ أن تُقدّم لكَ خرائط بناء فخم أمّ يُقدم لكَ منزل فخم تسكُنهُ وقد بُنيَ على أُسس علمية؟ فلذلك هُناك عالِم يُلقي درسهُ، وهُناكَ مُربٍّ، العالِم ألقى الدرس وانتهى الأمر، الذي عرف والذي لم يعرف سواء، أمّا المُربّي يتتبع تلاميذهُ، يحاول أن يُفهم، هذا الأخ إلى أين واصل؟ مدى علمه، مدى يقينهُ، مدى استقامتهُ، مدى فهمهُ، مدى استيعابهُ، المتابعة هيَ تربية وإلقاء الدرس تعليم.
التسليم الذي أساسهُ الثِّقة بالله هو أن تتخلص من كُلِ شُبُهةٍ تُعارض الخبرَ الإلهي:
الموضوع الأخير في هذا الموضوع قال: التسليم الذي أساسهُ الثِّقة بالله عزّ وجل هو أن تتخلص من كُلِ شُبُهةٍ تُعارض الخبرَ الإلهي، أي الله أخبر أنَّ آدم أبو البشر، يا أخي والله شيء يُحير، علمونا أنَّ داروين يقول إنَّ الإنسان أصلهُ قِرد، وقال هناك مستحاثات، وهناك حلقة مفقودة، فالله أخبرَ بوجود آدم، لا يوجد قرد، أنتَ تقول هناك قرد مثلاً، والله شيء يُحير، معناها لا يوجد تسليم لله عزّ وجل، لم تُسلِّم، أنتَ قرأت إنَّ الأرض كوكب في مراحل متأخرة جداً ابترد وصار أرضاً، أما ربنا قال:
﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)﴾
الأرض مخلوقة قبل السماء، هكذا ربنا عزّ وجل قال، إذا كان عِندكَ شُبُهات تعترض بها على إخبار الله عزّ وجل، الله عزّ وجل قال كلمة واحدة، قال:
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)﴾
إذا أحدنا لهُ ابن عمرهُ عشر سنوات، وكان قد اشترى محلاً تجارياً قبل ثلاثين سنة، جالس في مجلس، يقول: أنا والله المحل الفلاني أخذتهُ من فُلان، يقول الابن: بابا من فلان أخذتهُ، أنتَ كُنت وقتها، أنتَ عندما أنا أخذتهُ أين كُنت أنت؟ الذي يعترض أن أخي لا أن يكون أصلهُ كذا، يقول الله: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ﴾ ما كانوا معي ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ لم تكونوا أنتم في ذلك الوقت، تتفلسفون على ماذا تتفلسفون؟ لا أصل الإنسان قرد، لا ليس أصله قرداً، لا كان دخاناً، فلما يكون عندك شُبُهات، هذه الشُّبُهات تعترض بها على إخبار الله عزّ وجل، فهذا من عدم التسليم، وعدمُ التسليم من عدمِ الثِّقة.
أو يوجد عندك شهوة مُصرّ عليها، هذه الشهوة تُعارض بها أمراً إلهياً، قال لكَ الله: غُضّ بصركَ، يا أخي هذا الزمان صعب، أين نذهب بأعيننا يا أخي؟ يُمثلّ لكَ تمثيلاً، أنكَ تمشي هكذا تجد واحدة أمامك، على اليمين واحدة، على اليسار واحدة، إلى فوق تجد في الشرفة جالسة واحدة، أين أذهب بعيني؟ أي مستحيل، أي الله كلفكَ بشيء فوق طاقتكَ؟ الله قال:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
فعدم الاستسلام سببهُ إمّا شُبُهة تُعارِضُ إخبار الله عزّ وجل، وإمّا شهوة تُعارِض أمره، أنتَ بينَ شهوةٍ وشُبُهة، الشُّبُهة تمنعُكَ من أن تستسلم، وعدم الاستسلام أساسهُ عدم الثِّقة، والشهوة تمنعُكَ من أن تستسلم، وعدم الاستسلام أساسهُ عدم الثِّقة، أو إرادة تُعارض الإخلاص، أي إلهي أنتَ مقصودي ورِضاكَ مطلوبي، هوَ يُريد أن يعرف الناس أنه قد حجّ، شخص دخلَ للجامع، نوى على الحج، ومعهُ مبلغ من المال، يبحث عن شخص أمين، يُعطيه إياه كأمانة، فدخل للمسجد، وتفرّس بالناس، وجد شخصاً هناك خشوع بصلاتهِ زائد، يُغمض عينيه، فقال: هذا بُغيتي، فلما جاء لِعِندهِ قال لهُ: أنا أريد أن أذهب للحج، معي مبلغ من المال، أُريد أن أضعهُ عِندكَ أمانة، قالَ لهُ: أنا أيضاً صائم سيدي، قالَ له: لكن صيامكَ لم يُعجبني، فتجد شخصاً أحياناً ليسَ عِندهُ إخلاص لله عزّ وجل، يجعل الدين تجارة، يجعل الدين شيئاً رخيصاً، يبتغي بالدين عَرَضَ الدنيا، فالله عزّ وجل أمرهُ بالإخلاص، هوَ يُريد الدنيا من خلال الدين، هذا إذاً لا يستسلم.
هناك إنسان الله عزّ وجل يقول مثلاً:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
يقول لكَ: لا، الله خلقنا لُيعذبنا، يا أخي، لا راحة في الدنيا، هات لي شخصاً مرتاحاً، أي الله كلامهُ غير صحيح، أنتَ لكَ رأي غير ما يقولهُ الله عزّ وجل، فإذا نجوتَ من شُبُهةٍ تُعارِضُ إخبارَ الله، أو من شهوةٍ تُعارِضُ أمرَ الله، أو من إرادةٍ تُعارِضُ الإخلاصَ لله، أو من تفسيرٍ أو فلسفةٍ تُعارضُ ما جاءَ في كتاب الله، إذا نجوتَ من كُلِّ ذلك فأنتَ ذو قلبٍ سليم، واسمع قولهُ تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
القلبُ السليم خلا من شُبُهةٍ، وخلا من شهوةٍ، وخلا من إرادةٍ خِلاف الإخلاص لله، وخلا من عقيدةٍ، أو تفسيرٍ، أو رأيٍ خِلاف ما وردَ في كتاب الله، إذا نجوت من كُلِ أُولئك فأنتَ ذو قلبٍ سليم، وأنتَ الناجي بفضل الله عزّ وجل.
التسليم يرقى بالإنسان إلى مرتبة الصّدّيقيّة:
العلماء قالوا: إنَّ التسليم يكادُ يرقى بالإنسان إلى مرتبة الصّدّيقيّة، ومرتبةُ الصّدّيقيّة أعلى مرتبةٍ بعدَ النبوة، النبوة، الصّدّيقيّة:
﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)﴾
سيدنا أبو بكر الصدّيق، أعلى مرتبة في الإيمان مرتبةُ الصّدّيّقية، فإذا استسلمت إلى الله عزّ وجل، فوضت واستسلمت ووثقت، لا يوجد شُبُهة، ولا يوجد شهوة، ولا يوجد إرادة غير مُخلِصة، ولا يوجد تفسير خِلاف ما جاء في القرآن، نجا قلبُكَ من هذه الأمور الخمس، فأنتَ في مرتبة التسليم، والتسليمُ أساسهُ الثِّقة، والثِّقةُ أساسُها معرفة الله، ومعرفةُ الله هيَ كُلُّ شيء، ورضي الله عن سيدنا عليٍّ حينما قال: أصلُ الدينِ معرِفتهُ، أي بينَ الذي يعرف والذي لا يعرف بونٌ شاسع، والله مرة كنت حاضراً في مكان، توفي صاحب البيت، فذهبنا إلى مواساة أهله، دخلَ أخوه سبَّ الدين، لماذا مات أخي؟ قال: لماذا مات أخوه؟ نظرت إليه، هذا لو كان يحضر مجالس عِلم، لو كان يعرف الله عزّ وجل، يعرف الأجل، يعرف ما عِندَ الله بعدَ الموت، جاهل جهلاً فاضحاً، قذراً، جهلاً بشعاً، قال: لماذا مات أخي؟ شخص توفيت زوجتهُ، عمرها ستون سنة، ولها أُخت عمرها تسعون سنة، قال: لو أخذ تلك، هذا جهل، فلذلك الإنسان كُلما نما عقلهُ ونما إيمانهُ قلَّ كلامهُ، لَزِمَ الصمت، وسبّحَ الله وحَمِدَ اللهَ على كُلِّ شيء.
اللهم علمنا بما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق